أين المفر؟

“صمتاً، الطائرة مخطوفة، ولن نؤذي أحداً إذا بقي كل منكم هادئاً في مكانه !!”

كان الجميع يحملق في القنبلة التي كان يلوّح بها المتحدّث بينما انكمشتُ في مقعدي، ومددتُ يدي لأتشبّث بيد أختي الكبرى فاطمة التي أشارت لي بالهدوء. سادت فترة صمت رهيبة تخللتها همهمات خافتة، أعقبتها صرخة حاسمة : “قلت لكم سكوت!!” كنتُ مرعوبة! أبتلع ريقي بصعوبة بالغة. أغمضت عيني وقد حضرتني في تلك اللحظة كل حوادث الاختطاف التي سمعت أو قرأت عنها خلال حياتي، وفكّرت في أن الخاطفين في بعض الأحيان يعمدون إلى قتل الرهائن واحداً تلو الآخر إذا تأخرت الجهات المسؤولة عن تنفيذ طلباتهم.

مر أحد المضيفين في هذه اللحظة ومعه أحد الخاطفين ليطلب من الجميع الالتزام بالهدوء وربط الأحزمة، ويطمئنهم أن كل شيء سينتهي على خير، ولن يتم إيذاء أحد. كان المضيف يتحدّث بهدوء وكفاءة، ولكني نظرت إلى عينيه، فلمحت شخصاً خائفاً قلقاً. كان الخاطف خلفه تماماً، ولم أشأ أن أنظر إليه مباشرة حين مرّا إلى جانبي. خشيت أن يثبت وجهي في رأسه إذا ما قرروا التخلّص من الضحايا. ولكني من نظرة خاطفة لاحظتُ لأنه لم يكن يبدو على وجهه أي علامة للشر أو الإجرام. “أنا لا أريد أن أموت” همست المرأة التي على المقعد الموازي لمقعدي ويفصلني عنها الممر. نعم أنا أيضاً لا أريد أن أموت. لطالما سمعت عن حوادث اختطاف طائرات، ولكني لم أتصور أن أكون ضحية إحداها إطلاقاً!

ضغطة خفيفة على يدي جعلتني ألتفت إلى أختي، حرّكت شفتيها دون أن تنبس ولكني استطعت إدراك ما قالت: “اسكتي تماماً يا حمدة”. انكمشتُ في المقعد أكثر، وازددتُ تشبثاً بيدها. لم أكن أتخيل الرعب الذي يتملك الإنسان حين يواجه خطر الموت حتى تلك اللحظة. الموت! كلمة رهيبة.. مخيفة.. وغامضة.. مثل مصيري.. مثل مصيرنا جميعاً. كنتُ أشعر بهلع الإنسان الذي يتحدد موته من حياته بقنبلة في حجم البيضة يلوّح بها إنسان آخر. نعم أنا لا أريد أن أموت. أغمضتُ عيني لأتساءل في يأس. ما الذي يخيفني؟ إنه ليس الموت. ولكن ما يعقب الموت نعم هذا ما يخيفني. الحساب والعقاب. هذا بالضبط ما كنتُ أفكر به في تلك اللحظة، أيّ عمل سيتقدّمني؟ وأي ملائكة سيصعدون بروحي إلى السماء، أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب. ارتجفت شفتاي، وغصت في المقعد وشعرت باستسلام عميق. استسلام تام لمصير مجهول أتوقع معه أسوأ النتائج، ففي وقت الحساب. لا منفذ ولا ملاذ.

فتحتُ عيني حين اهتزّت الطائرة بعنف، بينما همست أختي بهدوء، “مطبّة”. شعرتُ بالطائرة تميل، وفي ثوان، تخيلت شجاراً دائراً في غرفة القيادة أدّى إلى انفجار احدى القنابل التي يحملها الخاطفون، ثم لاحت في مخيّلتي صورة الطائرة وهي تهوي إلى البحر. ولكن عودة الطائرة لطبيعتها أعاد إلى بعضاً من صوابي. نعم، عليّ ألا أفقد أعصابي أبداً. كان مقعدي ومقعد اختي في المقاعد الوسطى، تجلس إلى جانبنا امرأة كويتية وإلى جانبها زوجها. بينما جلس أمامنا شابان إماراتيان،سبق وأن رأيتهما في الجامعة التي أدرس فيها في كندا. بقية الركاب كانوا من جنسيات مختلفة. أختى كانت تزورني للاطمئنان على حالي في كندا ومن ثم العودة معي في إجازة الصيف. التفتُّ إلى اليسار، أبحث عن نافذة مفتوحة، فلم أوفق، وتساءلت:”لم أغلق الجميع نوافذهم؟”.

استقرّت نظراتي التائهة أخيراً على الخارطة في الشاشة التي أمامي. وسمعت من همهمة مجاورة كلمة “هبوط”.. بدأتُ أحاول التركيز في الخارطة أمامي أكثر. نحن متجهون نحو أوروبا، نعم، والتقطت عيناي كلمة زيوريخ. هل سنهبط فيها؟ هل هي مدينة أم دولة؟ لا أعرف، ولكن اسمها كان مكتوباً بخط كبير على الشاشة. ولكن ماذا لو لم نصل؟ ماذا لو سقطت الطائرة في البحر؟ انحنيتُ لا إرادياً لأتأكّد من وجود سترة النجاة، وهو الأمر الذي لم أعبأ به أبداً على كثرة أسفاري. وانتظرت هبوط الطائرة مدةً غير قصيرة، ولكنها لم تهبط. لعله كان أمل أحد الركاب الذي أفلتت منه كلمة “الهبوط”. كانت الأفكار التي تدور في رأسي مخيفة للغاية، وكنتُ أرى ذنوبي كالصور المتلاحقة أمام عيني، وأنا ألوم نفسي وأتمنى لو بإمكاني التراجع، لو بإمكاني إصلاح بعض ما كان. وبلا شعور، بدأت شفتاي ترددان الشهدتان في صوت أقرب إلى التنهيد، وقد تحجّرت في عينيّ الدموع.

كان الوقت يمر ببطء شديد. الهدوء المخيم على الطائرة، جعلني للحظة أتساءل، كم هو سهل السيطرة على مجموعة من الناس مهما كان عددهم بتهديد حياتهم. أخرجت فاطمة مصحفها، وجلست تقرأ فيه، وكذلك فعل الزوجان إلى جانبها، يقرآن في مصحف. لم يكن عندي مصحف. فأنا أفضّل تخفيف حقيبة اليد، وحمل جزء واحد فقط لأقرأ منه -إن أمكن- خلال الرحلة. تأمّلتُ كتبي العلمية ورواياتي المكدّسة أسفل المقعد الذي أمامي. كلها الآن بلا فائدة. ليتني أحضرتُ معي مصحفي الصغير.  لكزتني أختي لأخفض رأسي، الذي يبدو أني رفعته دون قصد، وأشارت لي أن أقرأ معها قليلاً، لعل الله يفّرج الكرب. نظرتُ إليها، مؤمنة ولديها أمل كما هي دائماً. ولكن أين الأمل؟ هززتُ رأسي لأدفع الأفكار السوداوية التي تزاحمت في مخيلتي، وحاولتُ التركيز. وفي الثواني التالية، شعرت بذراع اختي يحيطني، وبلا إرادة أسندتُ رأسي على كتفها، وتركت دمعةً خوف ساخنة تشق طريقها عبر عباءتها بصمت.

“سنهبط أيها السادة” رفعتُ رأسي، وهمستُ بصوت خائف: “سنهبط يا فاطمة”، أجابتني بصوت لا يكاد يسمع: “نعم إن شاء الله”. كان المضيف يتحدّث بهدوء، وهو يقول: “سنهبط في مطار شارل ديجول في باريس”. “ولكن وجهتنا كانت لندن” همس أحد الركاب، فأشار له المضيف بالصمت، بينما أرسل الخاطف نظرة تحذيرية. وفكّرت: “يالغبائه” كان قد مر على معرفتنا بالاختطاف ساعة وثلاثون دقيقة. ولكني شعرتُ بها وكأنها ساعات طويلة. هبطتْ الطائرة، وقد صدرت إلينا تعليمات مخيفة بعدم الحركة وعدم الكلام التزمنا جميعاً بها فالتهديد كان واضحاً. انتبهت في تلك اللحظة لوجود أحد الخاطفين في الخلف. يا إلهى، قنابل يدوية تحيط بنا من كل اتجاه ونحن معلقون ما بين السماء والأرض.

بعد مناورات ودوران مرهق للأعصاب، هبطتْ الطائرة أخيراً. وبقينا في المقاعد قرابة الساعة. لابد أن التفاوض بين الخاطفين والمسؤولين كان يتم في هذه الأثناء. هبوط الطائرة منحني شعوراً أقرب للاطمئنان. فنحن على الأرض، صحيح أنه لازال خطر الانفجار قائماً، ولكن تلاشي خطر السقوط إلى الهاوية على الأقل، قد يموت الناس نعم.. ولكن أنا لن أموت.. فاطمة أيضاً لن تموت. إن الموت للآخرين.. ليس لي أنا.. ليس لي أنا.. !! فجأة جاء أحد الخاطفين، وقال بسخرية: “سوف نقوم بإنزال العوائل فقط، فنحن نكره تفكيك الأسر. أما المسافرون المنفردون، فسيبقون معنا قليلاً”. نظرتُ إلى أختي بهلع. فهمست المرأة التي بجانب أختي: “أنتما معنا”، ولكن الخاطف اللعين فاجأنا جميعاً بأنه قام بانزال نصف عدد الأفراد من كل عائلة. وهكذا كان لابد للسيدة الكريمة وزوجها التخلي عنّا. برغم عرضهما السخي أن تنزل احدانا مع الزوجة إلا أننا رفضنا الافتراق عن بعضنا. وفي الحقيقة، وبرغم الظروف التي كنت أمر بها إلا أنني استغربتُ كثيراً من أنه لم يتم اطلاق سراحنا نحن، فالمعتاد أن يتم اطلاق النساء والأطفال.

بقي في الطائرة ثلاثة وستون مسافراً. ومعنا الطاقم وهم ستة، والخاطفون وهم خمسة. كان أحد الخاطفين يلوّح بمسدس، ويتحدث بلغة لا أفهمها. وكان غاضباً، إذ يبدو أن إدارة المطار قد تأخرت في تنفيذ طلباتهم، خاصة وأنه قد مر أكثر من عشرين ساعة، لابد أن أبي وأمي قد سمعا بالخبر الآن. ليتنا تركنا خبر عودتنا ليكون مفاجأة لهما. كانت أصابع يدي قد تصلّبت على يد أختي، حين شعرتُ بشيء بمعدني بارد يلامس صدغي. ودون أن أحاول التخمين، عرفت أنه المسدس. للحظة، لم أعرف فيمَ أفكّر. كلمة واحدة فقط كانت تقتحم أفكاري، وتحيط بي من كل اتجاه، “الموت”. لم أعرف ماذا حدث، فقط مر كل شيء بسرعة خاطفة، يد قاسية جذبتني، وسمعت صوت رجل يقول: “دعها إنها فتاة ضعيفة”، وسمعتُ أختي تتحدثُ بصوت مرتفع، وقد تهاوى عنها كل أثر للهدوء والتماسك. بينما دفعني الرجل أمامه بمنتهى العنف والقسوة.

كنتُ أقف عند باب الطائرة الذي لا يليه سوى فراغ أسفله مدرج الطائرات الواسع. رأيت نور الشمس! كان الرجل يمسك بي بإحدى يديه، ويلوّح بالمسدس باليد الأخرى على رأسي. كان الحديث بينه وبين أشخاص آخرين يتم بالفرنسية التي لا أفهم منها شيئاً وفكرت في أنه من العجيب أن تُهدد حياتي لسبب لا شأن لي بل إنني حتى لا أعرفه. يبدو أنني كنت أرتجف فقد لطمني الرجل، وأمرني بالثبات. ولكن زلّت قدمي من على عتبة باب الطائرة المفتوح لتزايد ارتباكي وهلعي. أفلتّ من يد المجرم، وبدأت في السقوط. عندها فقط لم يعد يهمني شيء. رفعتُ رأسي للسماء، وأنا أتمتم بالشهادتين. وتركت نفسي لتهوي دون أن أحاول المقاومة.

– تمت –

أوشال

أضف تعليقاً