عقلي بحاجة لبعض الغبار!

لدي صفة قد تكون لدى الكثيرين غيري، ولا أستطيع تصنيفها ضمن النعم أو النقم (إن كان هذا الجمع صحيحاً!) وهي التفكير الناقد! يقولون أنها صفة جيدة، وأنها تجعل للإنسان شخصية حقيقة والقدرة على تكوين رأي وفكر وتوجّه. والحقيقة أنني أسحب هذا النمط في التفكير على كل ما يقع تحت يدي من مواد للقراءة أو الاستماع، حتى المحاضرات والكتب التي يكتبها كبار المؤلفين على مر مختلف العصور..

ما بين القرضاوي والسويدان وعمرو خالد وابن الأثير وابن كثير وابن رشد وكانت وديكارت ودستوفيسكي وشيكسبير و هرمن هيسه وغيرهم من مئات وربما ألاف المحاضرين عبر اليوتيوب وغيرهم وغيرهم.. دائماً هناك (أعجبني ولكن..) أو (كتاب جيد ولكني أختلف مع الكاتب في كذا وكذا) أو (محاضرة قيمة ولكن ذلك الجزء لم يعجبني.. أو لم يقنعني) عقلي دائماً يعمل وينقد..

عشتُ حياتي الماضية وأنا على قناعة أن هذه ربما تكون أجمل صفاتي، والتي ربما من أجلها أستحق أن أغتر بنفسي وبقدرتي على الفهم وإطلاق الأحكام.. وكم كنتُ غبية! إذ اشتريتُ بالصدفة مجموعة محاضرات تفسير 48 أية من سورة البقرة لمحمد متولي الشعراوي، عشر سيديهات قيمتها 55 درهماً وهي نسخة أصلية.. وبدأتُ أستمع إليها..

محاضرة تلو المحاضرة.. وسي دي تلو السي دي، ولأول مرة في حياتي أشعر أنني حرة من التفكير وأنني أستمتع بكوني طالبة في رحاب أستاذ.. فهمتُ حقاً لماذا كان الباندا في فيلم كونق فو باندا يتطلع لأستاذه تطلع المستوعب الذي تملؤه الأسئلة ولكنه يسمع فيطيع وينتظر ما يكشف عنه الزمن. وفهمتُ طريقة التعليم التقليدية التي تكون عادة بين المعلّم والتلميذ الذي يصاحبه.

أنا تلميذة أنهكني صقل عقلي.. أتعبني حقاً أنني أعمل هذا الدماغ في كل شيء وفي أي شيء.. وجاء الشعراوي ليضعني في رفق خلف طاولة الدراسة لأستمع إليه وأنهل من علمه دون أن أشترط الشروط أو أقيد القيود..

مفسّرو القرآن من نوع الشعراوي يستحقون تصنيفاً يضعهم في مصاف العباقرة من أمثال أينشتين ونيوتن وغيرهم.. لأنه حقاً يمتلك  ذكاءا مبهراً.. حقاً مبهراً يجعل الإنسان يقف عند أعتابه ليتعلم أن (يتعلّم) وحسب، دون أن يأخذ دور المفتّش والقاضي وضابط الشرطة.
 
أستمع إليه وأنا أقود سيارتي، فتأخذني المحاضرة إلى أماكن مختلفة كدولاب الدنيا الذي يفتح مرة على باب فلسفي عميق، ومرة على باب أخلاقي أعمق.. ومرة يلقيني في خضم أمواج متلاطمة بين اللغة والمنطق والعلم، وكل هذا ضمن إطار ثابت هو تفسير القرآن.. ولكنه مذهل.

اكتشفت مؤخراً أن التفكير الناقد ليس أفضل شيء في العالم.. واكتشفتُ أنني أستمتعتُ بمحاضرات الشعراوي ربما أكثر من أي شيء آخر في حياتي عندما استمعتُ إليه وأنا أفتح عقلي له ليضع فيه ما يشاء.. ولنترك إطلاق الأحكام لاحقاً.. لنترك كل شيء للزمن الذي سيكشف لنا عما نريده..

 
إن قليلاً من الغبار على خلايا المخ لا يصيبها بالصدأ ولكنه يسهم في تحفيزها للدوران مرة أخرى..

رحمكَ الله يا سيد مفسّري هذا العصر يا من أفتخر بأنك أستاذي..

أضف تعليقاً