حياة أحتملها

ألقيتُ الفوطة المتسخة في الطست بقوة، فتطايرت قطرات من الماء استقرت على ثوبي لتزيد غضبي. صحت وأنا أرتجف من الغيظ: أف!!

“هل قذفَتْ بالطعام على الأرض مرة أخرى؟”

فاجأتني العبارة فالتفت بسرعة نحو مصدر الصوت. كان يجلس على المقعد الطويل المقابل لغرفة الغسيل التي كنتُ أقف فيها. أجبتُ وأنا أحاول أن أتمالك أعصابي: “نعم قذفت بكل ما كان في الصينية على الأرض، أزعجني فقط أنه كان ضمن الغداء طبق شوربة انسكب كله على الأرض.”

– لمَ عليك احتمالها دوناً عن بقية أخوتك؟
– لأنني الكبرى!

قلتها بحزم وتشاغلتُ بوضع الصابون في الطست، فأشعل سيجارة وقال: “أنا أيضاً الأكبر يا ابنة عمي، ولكني لا أحمّل نفسي فوق طاقتها!

– ربما لو كانت لك أختًا معاقة لاختلف الأمر عندها
لوى فمه، وقال وهو يهز كتفيه بغير اقتناع: “ربما” وعاد ينفث الدخان في هدوء. نظرتُ إليه بطرف عيني، كادح ومطحون مثلنا، ومثل بقية سكان منطقتنا الشعبية الفقيرة التي لا يتخيل زائر دبي وجود مثلها في مدينة مكتظة بالسيارات الفارهة والبيوت الفخمة.
– لمَ لا تشترين غسالة كهربائية؟
ضحكتُ بمرارة: “وأنّى لي ثمنها وفي عنقي أربعة كلهم في المدرسة، وأخت معاقة يذهب نصف راتبي على مصاريف علاجها”
– لمَ لا يتكفّل بها عبدا لرحمن؟
– لم أره منذ سنة.. وربما أكثر

لم يعلّق، بينما أكملتُ دعك الفوطة المتسخة في همّة، وبعد دقائق عاد ليسألني:

– ألا ترغبين في الخروج في نزهة مع الصغار؟
– نعم أحياناً أفكر في الذهاب إلى إحدى المحلات الراقية التي نسمع عنها بدلاً من الجمعية أو حاجات الصغار من سوق نايف، ولكن اليد قصيرة كما تعرف.

قلت عبارتي وأنا أبتسم، فرد الابتسامة ثم استدار عائداً إلى منزلهم الملاصق لنا وهو يقول: ربما تتحسن الأمور فيما بعد.. من يدري؟

عدتُ إلى الطست أمامي وعبارته الأخيرة تدور في مخيلتي: “هل حقاً يمكن أن تتحسن الأمور؟”

توفيت أمي قبل ثمان أو سبع سنوات ولحق بها أبي بعد عام تاركاً لي إرثاً من الإخوة والاخوات وأكواماً من الديون. أخي عبدالرحمن الذي يصغرني بعامين متزوج وله أسرة، ولم أره منذ وفاة أبي إلا مرتين أو ثلاث، لم يترك خلالهما شيئاً وهو خارج من زيارتنا رغم أننا في أشد الحاجة لأي مساعدة مادية.
عمي الذي يسكن في المنزل الملاصق لنا متزوج من أربع، وهذا بالتأكيد يجعله منشغلاً طوال الوقت، أو ربما أنا فقط أفتش عن عذر لأعذره به. أما ابنه الأكبر أحمد فهو مستقل تماماً عنه. ويمر علينا من آن لآخر بحكم الجيرة، وربما لأنه يشعر نحونا بالمسؤولية بحكم أننا كنا شبه مخطوبين في حياة والدي، ولكنه لم يؤكد الأمر بعد وفاة أبي مما أفهمني أنه لم يعد مضطراً لمجاملة أحد. في الحقيقة أشعر نحوه شعوري المفروض نحو أخي عبدالرحمن الغائب، ربما لأنه يهتم بنا ويسأل عنّا.

بعد وفاة أبي، وجدتُ نفسي فجأة أهجر الدراسة والكتب، لأكون مسؤولة عن بيت وأسرة. كان عليّ أن أكون الأب والأم والأخت في منزل كنتُ فيه ابنة مدللة.

ألف درهم هي كل ما أحصل عليه شهرياً مقابل وظيفة عاملة البدالة في أحد المستشفيات الحكومية بالإضافة إلى معاش والدي الذي لا يتجاوز بضع مئات من الدراهم.

إخوتي وأخواتي الصغار لازالوا في المدرسة، وطلبات الدراسة لا يمكن أن يكفيها مجموع النقود التي أحصل عليها، لذا علي بين الحين والآخر أن أقدّم بعض التنازلات، فكانت الغسالة إحدى التضحيات. منزلنا الشعبي القديم بكل ما تعنيه كلمة قديم من معنى هو فعلياً كل ما نملك، وكان أخي الأكبر شهماً بما يكفي لكي لا يطالبنا بإرثه فيه.

انتهيت من دعك الفوطة التي عاد لونها أبيضًا كما كان، فعصرتها ومضيتُ نحو الفناء لأعلّقها. استغرقتُ في التفكير من جديد وأنا أجمع الملابس التي غسلتها يوم أمس.
أختي المعاقة تصغرني بثلاثة أعوام فقط، ولكن عمرها العقلي لا يتجاوز الأربعة أعوام، ولديها إعاقة جسدية مما يصعب حركتها. أذهب إلى المستشفى بعد أن أغلق الباب عليها وأعطي المفتاح لجارتنا لتطمئن عليها كل فترة وحين أعود أنشغل بالأعباء المنزلية ومراجعة دروس الصغار، والاهتمام بأسماء. وحين تدق الساعة العاشرة ما أن أضع رأسي على الوسادة حتى أذهب في سبات عميق.

سمعت كلمة من إحدى الموظفات معي: “حياتي باهتة” ولكني أكاد أقسم أنها لا تعرف من “بَهَتان” الحياة شي، يعيشون في منازل واسعة، وينامون على أسرة وثيرة، ثم يتحدثون عن الاكتئاب والحزن.

أغاظتني الفكرة، فعدتُ إلى غرفة الغسيل وكوّمت الملابس على المنضدة وبدأتُ في ترتيبها وأنا أسأل نفسي: “حتى متى سأحتمل؟ حتى متى سأدور في هذه الساقية التي ليس لدورانها نهاية؟”

تملّكني شعور هائل بالضيق والإحباط فتركتُ ما كان في يدي وذهبتُ إلى أسماء التي كانت تشاركني الغرفة بطبيعة الحال..
– ألستِ جائعة؟
لم تجبني واستمرت تحملق في السقف كما كانت حين دخلت. أمسكتُ مجلة قديمة واقتربتُ من فراشها وأنا أحركها بيدي “هل أقرأ عليكِ شيئاً منها؟” لم تجبني، جلستُ على طرف السرير إلى جانبها وبدأتُ أقرأ..
ولكنها لم تتفاعل أبداً. وراودتني فجأة فكرة أنها قد ماتت!
نظرتُ إليها دون أن أجرؤ على تحريكها للتأكد مما وصلت إليه ظنوني، في ثانية واحدة تزاحمت الأفكار في رأسي: هل تخلّصت من الكابوس؟ هل انحلت العقدة التي تقف في وجه كل منشار أحركه في اتجاه الحياة؟ .. أردتُ أن أمد يدي لأهزّها، فتوقفت عند منتصف الطريق، ورددتها إلى حجري وأنا أحملق في وجه أختي.. هل ماتت أسماء؟
أرعبني الخاطر، ففككتُ قيد يدي من هذه الأفكار ومددتها نحوها فردتّها بيدها وهي تقول: أنا زعلانة!
قذفتُ بالمجلة على الأرض وارتميتُ عليها وأنا أبكي: “أنا آسفة لن أرغمك على تناول الطعام مرة أخرى.. سامحيني”
– لماذا تبكي مريم؟
قالتها ببراءة شديدة، وقد عادت لطبيعتها المشاكسة، فشعرتُ بالدنيا تدور بي. أي حال قاتم هذا الذي أوصلني إلى درجة الامتنان لفكرة أن تموت أسماء؟ لم أطلِقها من ذراعي، فدفعتني متململة: مريم تبكي، أسماء حلوة. مسحت دموعي وأنا أردد: أسماء حلوة..

في ذلك المساء حين نام جميع الصغار لم أستطع النوم، وبرغم الإنهاك الذي كنتُ أشعر به، لم يجد النعاس سبيله إليّ. جدران الغرفة الغارقة في الظلام تزيدني شعوراً بالاختناق.

عند الفجر، فتحتُ الدولاب وأخرجتُ حقيبة الملابس المهترئة، وبدأتُ في حزم ملابسي وحاجياتي في هدوء. ما الذي دار في رأسي في تلك اللحظات؟ أو أين سأذهب؟ أو ماذا سأفعل؟ لا أعرف! ولكني أعرف أن عليّ أن أتنفس الحرية، أن عليّ أن أعيش كما يعيش الناس في هذه المدينة الواسعة. ربما أكمل تعليمي أو قد أتزوج، المهم أن أخرج من هذا القمقم.
أغلقتُ باب الغرفة خلفي دون أن ألتفت إلى الوراء.

حينما تجاوزتُ إلى الباب الخارجي. كانت رائحة الفجر العطرة تملأ رئتي، وشعرتُ للحظة أنه علي أن أبتسم. نعم واجبي نحو نفسي، نحو ما يمكن أن أكونه في المستقبل الذي أصبح في يدي، علي أن أبتسم لأجل نفسي.. لأجل مريم!

لكن شفتاي لم تطاوعاني فوضعتُ الحقيبة على الأرض وجلستُ عليها ودفنت وجهي بين يدي. برغم الشعور بالحرية الذي كنت أتنفسه وأشعر به، إلا أنني لم أحس بالسعادة، بل أدركتُ أنني سأعيش تعيسة بقية عمري إذا تخليتُ عن إخوتي. كم سأحتمل أكثر؟ إن جميع الطرق التي أسلكها في الحياة مسدودة، في عنقي إخوة صغار، وأخت معاقة، لقد تعبت! أنا أريد أن أعيش، لا أن أبقى مدفونة في هذه المنطقة القاتمة من العالم. ردّتْ عليّ نفسي بدموع ساخنة.. فلم أشعر إلا ولساني ينطق بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم..

نهضتُ وقد أثقلتني الهموم وعدتُ إلى الداخل. مشيتُ في الحوش وقد بدأت الشمس تنشر أشعتها الدافئة وكأنها تقول لي أنّ هناك أمل. صحيح أن حياتي صعبة ولكن حياة أخوتي بدوني ستكون أصعب، لم يبقَ لي إلا أن أقنع نفسي الدنيا لازالت تعمر بالخير حتى وإن تأخّرت محطة ظهوره في حياتنا..
.. ومن يدري، قد يكبر الصغار ويقدّرون ما أفعله لأجلهم ويساعدوني في ذات يوم على تحقيق أحلامي.

— تمت —

أوشال

تعليق واحد على “حياة أحتملها”

  1. Lexus علق:

    No complaints on this end, smilpy a good piece.

أضف تعليقاً