شرينة
ربما كانت البداية الفعلية لكل ما حدث ذلك اليوم البارد من شهر يناير قبل ثلاث سنوات. كنتُ أنسّق أحد أحواض الزهور في حديقة منزلنا الخلفية، بينما جلست شرينة على السّلم المؤدي للأحواض وقد أعطتني ظهرها. كانت تدندن بأغنية شبابية، هي نفسها لا تعرف معظم كلماتها، وتستعيض بما لا تعرفه منها بتأوّهات ودندنات قصيرة بلا معنى.
خرج أبي إلينا من المنزل وهو يتساءل بصوت هادئ كعادته: أين مريم؟ -وهو اسم أمي- أجابته شرينة: “ذهبت إلى الجمعية”. نظر أبي إليها وكأنه قد انتبه للتو لوجودها: ” ألم تذهبي للعمل اليوم؟” أجابته بهدوء: “لا يا أبي، اليوم تبدأ إجازتي”، أجابها وهو لا يخفي امتعاضه: “ألن تتركي هذا العمل وتنضمي لإخوتك وأخواتك في شركة العائلة؟” أجابته شرينة بهدوء: “لا يا أبي، أنا مرتاحة في عملي جداً. يكفيك أن يكون معك فاطمة وأحمد وعمر، أنا أحب عمل المصارف ومستمتعة للغاية بعملي في المصرف”، هزّ كتفيه وقد لوى فمه دون أن يقول شيئاً.
في تلك اللحظة، دخلت أمّي من الباب الخلفيّ، وهي تتأفف من الإزدحام في الجمعية. ووضعت الأكياس على الأرض وجلست على كرسي قريب من السلم الذي جلست عليه شرينه. التفتت إليّ شرينة وهي تغمز بعينيها فقد نصحنا أمّي بألاّ تذهب للجمعية اليوم، وأخبرناها مسبقاً أن المكان سيكون مزدحماً في أوّل الشهر. نظرتْ أمي إلى حوض الزهور الذي كنتُ أعمل فيه ثم قالت: “فاطمة، أرجو ألا تكوني قد أتلفت نبتة الفل الصغيرة”، “لم ألمسها يا أمي”. لم تجبني، ولكنها أخذت تفتّش في الأكياس كمن تذكّر شيئاً فجأة، ثم أخرجت علبة من القطيفة، وهي تقول: “هل تخص هذه العلبة إحداكما؟ لقد وجدتها في السيارة اليوم وأنا ذاهبة للجمعية”
نهضت شرينة كمن قرصتها عقرب، وأسرعت تنتزع العلبة من يد أمي: “إنها تخصني يا أمي” وفي ثوانٍِ معدودة، كانت العلبة قد انفتحت، وتناثرت منها على الأرض أساور ذهبية تبدو قيّمة وثمينة. وأخذت شرينة تلملمها بارتباك شديد. “من أين لشرينة المال لتشتري هذه الكمية الكبيرة من الأساور، ولِمَ لَمْ تخبر أحداً منا عنها؟ ولم هي مرتبكة إلى هذه الدرجة؟” وبرغم مئات علامات الاستفهام التي ملأت رؤسنا، لم نسألها. واكتفينا بمراقبتها حتى انتهت ثم دخلت المنزل دون أن تنظر لأحد منّا.
خلال الثلاثة أشهر التالية، لاحظتُ أن أختي تتحدث في الهاتف لفترات طويلة وبشكل ملاحظ، بل وأنها تخرج منفردة كثيراً. لم أكن أصدّق أنها يمكن أن تكون على علاقة بشاب، ولكنّي كنت أشك فيها بيني وبين نفسي، دون أن أصرّح بذلك. وفي ذات يوم دخلت الخادمة تحمل كيساً قالت أن شاباً أحضره لمنزلنا وذهب وقال إنها لشرينة! نظرتُ إلى الكيس نظرة شك قاتلة، ولا أعرف لم قفزت في رأسي صورة الأساور الذهبية في تلك اللحظة. جاءت وأخذت الكيس مرتبكة وهي تقول أن صديقتها أرسلته مع أخيها. لم أصدّقها، وربما بدأتُ في الشكّ الصريح في أخلاقها منذ تلك اللحظة.
جاء يوم المواجهة بعدها، حين دخل أخي أحمد المنزل هائجاً كالثور، وهو يسأل عن شرينة، قال أنّ أحد الشباب في أحد المجالس أخذ يتفاخر بعلاقة تربط بينه وبين ابنة عائلة معروفة، وذكر اسم شرينة الكامل. كانت شرينة تقف مرتبكة خائفة، كانت تكرر عبارات مثل: “ماذا تقول؟” ، و”لا أعرف ما الذي تتحدث عنه”. الغريب أن أمي التي كانت تحول بينه وبينها كانت تنظر إليها بشكّ قاتل. واستطاع أخي أن يصل إلى شرينة ويصفعها. ساد الصالة هدوء شامل. أخي نفسه وقف يلهث أمام شرينة التي تجمّدت ذاهلة، ثم ركضت نحو السلم وصدى بكائها يتردد في أركان المكان.
توالت الأحداث بعدها بسرعة. في نفس الليلة طلبت أمي منها صراحة أن تخبرها إن كانت قد سمحت للشاب أن يلمسها، ورفضت شرينة أن تنطق بحرف، كانت تقول لأمي معاتبة: “هل تصدقين ما يقوله أحمد؟” ثم التفتت إلي بوجه حزين: “فاطمة هل تصدّقين؟” لم أجب، ولكن نظرة الألم في عينيها وهي تشيح بوجهها عنّي دلّت أنها فهمت شكوكي وعدم تصديقي لها.
جمعنا أبي بعد جلسات تحقيق طويلة مع شرينة استغرقت أربعة أيام، وطلب منّا أن ننسى ما حدث وأن تعود حياتنا كما كانت. ثم طلب منها أن تتوب إلى الله أمامنا جميعاً، وختم حديثه بأنه قد سامحها لما فعلته في السابق. لم تنطق شرينة بشيء إذ لم يكن لديها ما تدافع به عن نفسها، وغادرت الغرفة وهي تنظر إلى الأرض.
اعتكفت في غرفتها يومين، ولما خرجت منها في اليوم الثالث، كنّا جميعاً نتفادى النظر إلى عينيها، حتى لا تفضح شكوكنا التي لم يتحدّث بها أحد منا. نعم لقد شككتُ في أختي الكبرى دون أن يكون لديّ دليل. أنا وجميع إخوتي الباقين وأخواتي كنّا نتحاشى الحديث عن الموضوع، ولكن كانت كل أحاديثنا تنتهى عنده، فنبترها بشكل واضح مفهوم.
اجتمعنا في ذلك المساء بعد أن تناولنا العشاء الذي لم تهبط شرينة لتناوله معنا. لقد اعتادت مؤخراً أن تتناول الطعام في غرفتها لاحقاً. كنتُ أمسك بكوب من الحليب الساخن حين طلبت مني أمّي هامسة أن أصعد لأحادث شرينة قليلاً. قالت: “إنها لا تأكل أبداً منذ ثلاثة أيام، ولم تخرج من غرفتها اليوم أبداً. أخبريها أن ما حدث يجب أن يُطوى”. أجبتُ أمي هامسة أيضاً، وصوت التلفاز يكاد يغطّي حديثنا: “لقد تحدّثت معها أكثر من مرة يا أمي، إنها تتهرب دائماً متعللة بأنها مشغولة.” ألقت أمي بصرها على الأرض، وقالت بحزن: “ولكنها لا تأكل يا فاطمة، إنني قلقة عليها”.
صعدتُ السلّم، وأنا أنظر للصور على جانب السلّم. صور مختلفة لجميع أفراد العائلة، لطالما نظرتُ إليها أثناء صعودي ونزولي خلال العشرين عاماً الماضية. استوقفتني صورة كبيرة لشرينة، بدت سعيدة وضاحكة، وكان معها أخي أحمد وقد بدا هو الآخر سعيداً. الصورة كانت دافئة، حتى كأنهما سيعبرانها إلى أرض الواقع قريباً.
طرقت بابها، فلم تجبني، كما اعتادت أن تفعل مؤخراً، عندها فتحتُ الباب، ودخلت، كانت نائمة على السرير ووجهها للباب، لم تتحرك كأنها نائمة، برغم أن أنوار الغرفة كانت مضاءة. تقدّمتُ منها بهدوء وأنا أناديها حين استوقفتني علبة دواء فارغة إلى جانب السرير على الأرض.
برقت الفكرة في رأسي كالصاعقة، لقد انتحرت! أسرعتُ إليها، “شرينة، شرينة.. أجيبيني” كان جسدها بارداً كالثلج. فأخذتُ أهزّها في هلع: “شرينة أرجوكِ.. أجيبيني.. لا تتركيني هياً.. افتحي عينيك.. شرينة..” لم تتحرك، لم تتنفس. وظلّت جامدة بلا حراك. لا أعرف كيف مددتُ يدي إلى العلبة الفارغة، ودسستها في جيبي، جلستُ إلى جانبها على طرف السرير، وبقيت أتأمّل وجهها الهادئ وقد تجمّدت عيناي. ثم أدركتُ أن علي أن أخبر أمي.. فخرجتُ أناديها.
بدا الأمر كلّه أشبه بالحلم. صوت خطوات أمي وأبي على السلّم. وانهيار أخي أحمد باكياً كالأطفال عند باب غرفتها. سيارة الإسعاف التي ظل صوتها يملؤ رأسي أياماً وليالي بعدها. ثم العزاء الذي كنتُ أرى فيه الوجوه الحزينة، المشفقة، والليالي التي كنا نقضي معظمها دون أن نتبادل الحديث. لم أنجح في إخفاء مسألة قتلها لنفسها، ولكن لم ينتشر الخبر في المدينة. بل إنهم صلوّا عليها بشكل عادي، برغم أنني كنتُ أعتقد أنهم لا يصلون على المنتحرين. لم تحيّرني المسألة كثيراً فأنا لم أكن أتفقّه في الدين بشكل كبير.
كنتُ أحلم بها كثيراً. أناديها بألا تتركني، بألا تعذّبني برحيلها، أصرخ بأنني أصدّقها، وأنني أصدّق أنها بريئة، وأن عليها أن تقاوم الإتهامات، وأن عليها أن تثق في نفسها وأن الله سيساعدها. كنتُ أبكي في الأحلام لأستيقظ وأنا أجد وجهي مبللاً بالدموع، أفتح عيني وأجد واقعي أشدّ قسوة من الحلم، وأن شرينة ذهبت ولن تعود أبداً. ما كان عليها أن تؤلمني إلى هذه الدرجة. ما كان عليها أن تفعل ذلك. لمَ كان عليها أن تختار طريق الذهاب، لمَ ذهبتُ وتركتني ألومها على جرح قلبي الذي لا يندمل.
كان قد مر على وفاتها سبعة أشهر، حين دخلت الخادمة غرفتي ذات يوم وهي تبكي. كانت تتحدث بلغة مكسّرة، ولكني فهمت أن شاباً أعطاها مبلغاً من المال مقابل أن تعطيه بعض المعلومات عن أختي التي يبدو أنها لم تستجب لمعاكساته لها في مكان عملها. وأن الخادمة قدّمت له هذه المعلومات فعلاً دون أن تتخيل أن تكون سبباً في تلويث سمعة أختي.
لم أعد أسمع صوت الخادمة، فقد انفجرت الأفكار في رأسي، وركضتُ نحو غرفتها التي لم تُفتح إلا لمسح الغبار منذ وفاتها. كان كل شيء فيها كما كان في حياتها. كل شيء، الكتب والقصص والملابس، وأدوات الزينة. كأنها ستدخل بعد قليل. ارتجفتُ، وأنا أغالب دموعي.
لم أكن أعرف أين سأجد تلك العلبة، فكّرتُ في الدولاب، ووجدتها في ثاني دولاب فتحته. كانت رائحة عطرها المميز تملؤ المكان. فتحت العلبة، وأنا لا أعرف ما الذي أريده من هذه الأساور، ولكني أخذتُ أقلّبها في يدي، ثم انتبهتُ إلى ورقة صغيرة مثبّتة في الغطاء. (150 درهماً). الأساور كانت مقلّدة وليست أصلية، ولم تكن هدية من عاشق مجهول لأن بطاقة السعر كانت لا تزال مثبتة عليها.
نعم، لقد شككنا في أختي.. جميعنا، دون أن نتكّلم، لقد قتلناها قبل أن تقتل نفسها. جلستُ أمام دولابها أحتضن الأساور وأبكي بحرقة أكثر من بكائي عليها في أول أيام موتها. لم ولن أعرف أبداً لم ارتبكت أختي في ذلك اليوم بسبب هذه الأساور، ولكن ما أعرفه أنها لم تكن خائنة، وأنها ماتت من أجل لا شيء!
كنتُ أخرج كثيراً بعد ذلك اليوم. أذهب إلى إحدى الجمعيات الإسلامية التي لم أكن أعرف طريقها قبل وفاة أختي. كنتُ أحضر محاضرات دينية طويلة أشغل بها وقتي ونفسي، لم أكن أذهب للعمل كثيراً، وكنتُ أقضي معظم الوقت صامتة أفكّر. وقد انتظرني والدي اليوم. وما أن دخلتُ حتى طلب إلي أن أنتبه لنفسي ولصحّتي، وذكّرني أن ما أفعله جيّد ولكن علي أن آكل جيداً وأهتم بنفسي كما كنتُ. أحسستُ أنه لا يريدني أن أذكر أختي التي قتلت نفسها.
فما كان منّي إلا أن صحت في وجهه: “أعرف أنها ماتت.. أعرف أنها لن تعود وأن كل ما أفعله لا يفيدني ولا يفيدها.” خرجتُ من الغرفة وصفقتُ الباب، وركضتُ على درجات السلم حتى وصلت غرفتي، وأغلقتُ بابها وجلست خلفه على الأرض أحملق في الفراغ وقد امتلأت عيناي بالدموع.
نعم لقد ماتت أختي منتحرة. فهل هذا يعني أن أنبذها من حياتي؟ هل يكون يأس المنتحر من رحمة الله سبباً كافياً لأن أيأس أنا من الدعاء لها؟ لقد ماتت أختي. هذه هي الحقيقة التي عليّ أن أعيش معها ما بقي لي من العمر. أما مصيرها فسأتسلّق من أجله سلالم الرجاء، وسأظل أطلب لها المغفرة من صاحب باب الرحمة الذي لا يوصد.
– تمت –
أوشال
1 مايو 2013 في الساعة 7:11 ص
يا الله
قصة مؤلمة وموجعه