عالم آخر!

وقفتُ لألتقط أنفاسي وأنا ألهث بشدّة. الظلام شديد، والرؤية محدودة، وعيناي تجوبان المكان بسرعة بحثاً عن مخبأ. كانت أصوات المطاردين تقترب شيئاً فشيئاً حين لمحتُ صندوقاً أسوداً كبيراً بما يكفي لإخفائي. وبدون أن أضيّع ثانية أخرى، أسرعتُ واختبأت خلفه، وأنا أبذل قصارى جهدي كي لا أصدر صوتاً.

كانوا ثلاثة، أداة الجمع وأحد عناوين الآي بي ومعهما أداة الواو المنطقية، توقفوا في النقطة التي كنت أقف فيها قبل ثوان، وتعالت أصواتهم التي تشبه صوت الإنسان الآلي إلى حد بعيد.
أداة الجمع: أين ذهبت؟
الواو المنطقية: أين يمكنها أن تذهب من هنا، بل كيف جاءت إلى هنا من الأساس؟
عنوان الآي بي: نعم فهي ليست رقمية مثلنا، ولم يكن معها أي عنوان خاص بها. كيف مرّت عبر سلك الهاتف الرقمي؟
أداة الجمع (وهي تشير إلى أحد المخارج): لعلها ذهبت من هذا الطريق!
الواو المنطقية: علينا أن نفكر بمنطقية، لو أنها سلكت هذا الطريق، أو أي طريق آخر لرأينها فور اقترابنا، ولكن اختفاءها يعني أنها لازالت هنا. لعلها مختبئة في مكان ما!

تجمّدت الدماء في عروقي، يالها من واو منطقية ذكية ولعينة! كنتُ أستمع إلى خطواتهم المتلصصة، وهم يدورون في المنطقة بحثاً عنّي. فجأة، كتمت يدٌ أنفاسي من الخلف. حاولت المقاومة، ولكن مهاجمي كان محكماً قبضته على يدي وفمي، فلم أتمكن من الحركة. همس في اذني: “اصمتي” صوت بشري! أحسستُ (أو ربما أردتُ أن أحس) أنه لن يؤذيني، لذا هززتُ رأسي علامة الفهم. فأبعد يده عن فمي، وجذبني للخلف، التفتُ إليه، وفي النور الخافت رأيته، إنسان.. نعم إنسان مثلي! يرتدي نظارة طبية. دفعني خلف أحد الصناديق الأخرى، بينما كانت أداة الواو المنطقية تسلّط مصباحها الفسفوري على المنطقة التي كنتُ أجلس فيها قبل قليل.

انكمشتُ ساكنة في مكاني، دون أن أحاول الحركة، وكان ذلك الشاب يجلس إلى جانبي هادئاً أيضاً، حتى يئس المطاردون وذهبوا للبحث في مكان آخر. وما كادوا يذهبون حتى سألني مباشرة: “من أنت؟ وما الذي تفعلينه هنا؟” وقفتُ ساخطة: “ومن أنت؟ وكيف وصلتَ أنت إلى هنا؟” وقف هو الآخر بينما رفع حاجبيه قائلاً: “أنا معاذ! والآن بالله عليك أخبريني من أنتِ، وكيف جئتِ إلى هذا المكان فأنا أكاد أن أفقد عقلي هنا.” تلفتتُ حولي، فطمأنني: “لا تخشي شيئاً، لن يعودوا، فهم يتّبعون طريقة البحث التسلسلي، لن يعودوا إلى هذا المكان إلا بعد وقت طويل جداً، لقد كنتُ أتبعكم منذ مدة.” عدتُ للجلوس وأنا أتمتم: “أريد أن أعود إلى غرفتي!” جلس بقربي، وسأل بفضول: “ما اسمك؟” قلت: “سارة!”. صمتنا للحظة، ثم أدركتُ أنّه علي أن أقص ما حدث، فقلت: “بدأ كل شيء مع برنامج كنتُ أكتبه لمساق الذكاء الاصطناعي. وقد شعرتُ بالملل للحظة، فقررت أن ألعب احدى الألعاب على الانترنت، وفجأة ولسبب أجهله، ساد المكان ظلام دامس، ثم شعرت بقوة هائلة تجذبني إلى أعلى، وظننتُ أنني سأرتطم بالسقف، ولكن ما حدث هو أنني شعرت بأنني أخترق غلافاً لا أستطيع وصفه ولا تحديد مادته، وأظن أنني غبت عن الوعي فترة، لأنني حين فتحت عيني وجدتُ نفسي مكوّمة على الأرض. ولما استفقت من هول الصدمة، ونظرتُ حولي..” قاطعني متابعاً: “وجدتِ حولك المئات من الآحاد والأصفار، تسير بانتظام في طرقات هائلة، تنقل المعلومات من مكان إلى آخر..” فتممت العبارة: “بدا المكان كالمتاهة الهائلة، فنهضتُ وأنا أحاول أن أفهم ما الذي يحدث عندما أشارت إليّ إحدى علامات الواو المنطقية وصاحت: “دخيلة.. دخيلة” فبدأت بالجري، ثم كان ما رأيت”.

قال دون أن ينظر إلي: “لو أن شخصاً أخبرني هذه القصة قبل ثلاث ساعات لما صدّقت حرفاً منها، ولاتهمته بالجنون”. التفت إليه، وقد انعكس ضوء من مكان ما على وجهه، فرأيته حزيناً تائهاً مثلي تماماً. سألته لأستحثه على المتابعة: “وكيف جئتَ إلى هنا؟” قال: “كنتُ أصحح برنامجاً كنتُ مكلفاً بإعداده لأحد عملاء الشركة، حين حدث لي نفس ما حدث لك بالضبط، ولكني حين استفقت، وجدتُ نفسي في وسط معركة بين أحد الفيروسات، وحارس أحد المواقع” قاطعته بلهفة: “وكيف هو شكل الفيروس، لطالما تساءلت عن ذلك”، نظر إلي بعتاب كمن يقول :وهل هذا وقته، ولكنه أجاب: “قبيح للغاية، وكأنه تنين صغير” قلتُ بخيبة أمل: “توقعته أن يكون في شكل جاسوس خفي، ويرتدي نظارة سوداء، يخفي خلفها نواياه الخبيثة في إيذاء البرامج”. كنتُ أحرّك يدي بانفعال، فضحك رغماً عنه، ولم يكن أمامي إلا أن أشاركه الضحك. ثم سألت: “ولكن يا معاذ، كيف نعود لعالمنا البشري؟، أنت هنا قبلي، هل اكتشفت شيئاً؟” لم يجب ولكنه وضع اصبعه على شفاهه علامة السكوت. وبعد ثوان مر بقربنا أحد سعاة بريد الانترنت يحمل بريداً الكترونياً ثقيلاً. كان من الواضح أن مرسل البريد قد أرفق ملفاً ضخم الحجم بالرسالة، فقد كان الساعي يسير محني الظهر. وما كاد أن يختفي، حتى نهض معاذ واقفاً: “لستُ أعلم أين نحن الآن، وقد فشلتُ في العثور على طريق للخروج من هنا، وقد ننجح معاً” وافقته بأمل، فتابع: “حاولي ألاّ تثيري انتباه أحد، فنحن لا نعلم حقاً ما الخطر الذي يواجهنا، إن حجم كل شيء هنا كبير، ويكاد يقترب من حجمنا أو يزيد”، أيّدته، واقترحت: “ما رأيك لو حاولنا العثور على أحد الأجهزة الخادمة، لعلنا نجد فيها من يساعدنا” هزّ رأسه موافقاً، ثم سرنا معاً يتقدّمنا الخوف من المجهول.

بدأ الهدوء يخّيم على المكان، وقلّت حركة الانترنت في المنطقة التي احتجزونا فيها. ويبدو أنه لاحظ ذلك مثلي، فقال: “لقد قلّت الحركة بشكل ملحوظ” وافقته، وأنا أقول: “ما هذا يا معاذ؟” كنتُ أشير إلى بقعة سوداء صغيرة تتحرك أمام أحد البنايات الصغيرة القريبة منّا. هز كتفه وقال: “لا أدري”. لمعت عيني وأنا أردد: “فلنذهب لنرى!” لم يحاول أن يوقفني وسمعته يتمتم بصوت خفيض: “فضول النساء”. كنا نقترب من تلك البقعة بحذر، نتخفّى خلف ما يمكن أن يخفينا ونحن نتقدّم، حتى بدأت تتضح معالمها. كانت رقماً ستعشرياً يرتدي السواد بشكل كامل. يحاول أن يفتح باب احدى البنايات الصغيرة. اختبئنا خلف جدار قريب، ونحن نراقب ما يحدث. “يمكنكما الخروج، فقد رأيتكما، لا تخافا منّي فكلانا يخالف القوانين”، نظرنا لبعضنا خائفين، حين التفت الرقم إلى المكان الذي كنا نجلس فيه، فما كان منّا إلا أن تقدّمنا منه بحذر شديد. قال متأففاً: “لقد أحكم هذا الخبيث اغلاق جميع منافذ جهازه، فلم أتمكن من فتح أي منها، سأعود إلى من أرسلني، لأخبره بذلك”. “محاولة اختراق إذاً؟” قالها معاذ وهو يطلق صفيراً عالياً. فلم أخفِ مشاعري أنا أيضاً وهمست: “ولكن هذا ليس شرعياً”. نظر إلىّ الرقم الستعشري مباشرة في عيني وقال: “وهل وجودكما هنا شرعي؟!” أبعدتُ نظري عنه، وأنا أقول: “لا ندري حقاً، نحن تائهان. هل يمكنك مساعدتنا على الخروج من هنا؟” انحنى ليجمع أدواته الدقيقة التي كان يحاول فتح الجهاز بها. وقال: “لا وقت لدي، لابد أن أعود مسرعاً، إن من أمرني بالاختراق ينتظر عودتي، ولابد لي أن أخبره أن هذه الأداة لم تفلح مع هذا الجهاز”. وقفنا نراقب ما يفعل حتى انتهى ثم تركنا ومضى مسرعاً.

نظرنا للمنطقة حولنا، لم تكن مختلفة عن المناطق التي مررنا بها. فقال معاذ: “إنه عمل خبيث!” نظرتُ إليه متسائلة، فأجاب: “أعني الاختراق”. أجبته ونحن نسير إلى حيث لا ندري:
– نعم هو عمل خبيث، وغير شرعي، ولكن فيه فن.
– فن؟ أي فن؟ إن هذا عمل شرير.
– ولكن له تبريره في كثير من الأحيان
– لا يوجد شيء يبرر الاختراق (قالها بصرامة قاطعة)
– بل يوجد، بعض الناس يستحقون أن تخترق أجهزتهم و..
– وتنتهك خصوصيتهم. هل تقبلين أن يتجسس عليك أحد في منزلك؟
– لا يا معاذ الأمر ليس كذلك.. التجسس قد لا يكون فنيّاً.. ولكن الاختراق قد يكون كذلك.
– لا يجوز في كل الأحوال. بعض الأحيان قد يقوم الانسان باختراق مؤسسات لعدو بلده مثلاً، ورغم شبهة ذلك، إلا أنه معقول، ولكن أن تخترق جهاز فرد آخر..

كنا قد وصلنا لمفترق طرق، فسلكنا الدرب الذي على اليمين، وتابع معاذ: “الاختراق مثل السرقة يا سارة، بعض اللصوص، لديهم ذكاء شديد، وقدرات عقلية هائلة، يستخدمونها في التخطيط الإجرامي. بعض جرائم القتل قد تكون فنية إذا نظرنا إليها كما تنظرين أنتِ إليها” فكّّرتُ قليلاً، وقد أقنعني كلامه بعض الشيء، ثم قلت بعناد: “ولكن هذا لا يمنع أن فيها ذكاءً. “ذكاءً تم استخدامه في الطريق الخطأ”. لم أجادل. وقطعنا بعض الوقت ونحن صامتين.
سألته ونحن نسير إلى جانب سور منخفض يحجز خلفه بعض المواقع الشخصية المجانية في الانترنت: “هل تحب القراءة؟”. “نعم إذا وجدتُ الوقت لذلك.” نظرتُ إليه وقلت: “أنا أعشق القراءة، ولابد أن أقرأ على الأقل صفحة أو صفحتين قبل أن أنام”. هزّ رأسه، وقال بإعجاب: “هواية جميلة، ولكنها قد تكون مملة في بعض الأحيان”، أجبت: “ليس إذا أحسنتَ اختيار ما يناسب ذوقك”. قال: “في الوقت الحالي، توجد الكثير من الوسائل الاعلامية والتثقيفية التي تحل محل الكتب” أجبته: “نعم صحيح، ولكن الكتب تفتح لك آفاقاً فكريةً واسعة”. وبسرعة، قفزتُ ووقفتُ على السور، ونظرتُ إليه من أعلى. فصرخ وهو يتلفت: “انزلي ماذا تفعلين؟ قد يراك أحد ما” تجاهلت عبارته وقلت: “حين تقرأ تكون كالواقف على سور، ترى ما يوجد على جانبيه”. نظر إلي بتردد، فقلت له مشجّعة: “صدّقني جرّب ولن تندم أبداً”. قفز ووقف إلى جانبي. قال وهو يقلّب بصره فيما حولنا: “كم هو رائع!” كانت المواقع الشخصية خلف السور الذي كنا نقف عليه، متباينة بشكل شديد. بعضها فيه معلومات، وبعضها فيه منتديات حوارية، تتشاجر فيها الكلمات وتتآلف. وبعضها فيه صوراً عجيبة وكبيرة.. تنوّع كبير في مساحة واسعة جداً تضيئها مصابيح ضخمة تعطيها جمالاً ما بعده جمال.

ظل المنظر الجميل الذي شاهدناه معاً حين كنّا على السور عالقاً في ذهني ونحن نتابع السير، قال فجأة: “سارة، هل نحن مُسيّرون أم مُخيّرون؟” قلت بثقة: ” نحن مُخيّرون!”. أجابني:
– ولكننا لا نختار أهلنا، ولا شكلنا، ولا حتى من نحب ونكره
– نعم صحيح، ولكننا مخيرون أن نقبل بهذا أو نرفضه
– كيف؟ (وهو ينظر إلي دون أن يتوقف عن السير)
– لنفرض أن شخصاً ما ولد في أسرة فقيرة. حسناً هذا أمر لا يستطيع تغييره، ولكن لو نظرنا للامر بقليل من التأمّل سنجد أنه يستطيع أن يتعايش معه ويقبل به، أو أن يرفضه، ويحاول تغييره.
– ولكن الانسان لا يستطيع تغيير والديه مثلاً
– تقصد أنه لا يستطيع تبديلهما، هذا صحيح.
– والحب أيضاً. الانسان لا يختار من يحب ومتى!
– الحب نعم صحيح، ولكن الاستمرار فيه اختياري بحت. فقد يجد رجلاً متزوّجاً امرأة أخرى غير زوجته، ويحبها، ثم يختار أن يتزوج منها. هو اختار هنا استمرار الحب، وقد يفعل غيره عكس ذلك، فيبتعد عنها مكتفياً بزوجته الأولى، ويكون قد اختار عدم الاستمرار في الحب.

قال مبتسماً: “وجهة نظر مثيرة يا سارة”. رددتُ ابتسامته بابتسامة شبيهة، وقلت: “شكراً”. سرنا بعدها بصمت. ولكنه كان صمتاً جميلاً، فكّرت خلاله، أن هذه التجربة ليست مخيفة ولا سيئة كما كنتُ أشعر في بدايتها. كنتُ مستغرقة في التفكير، فلم أنتبه إلا على صوت معاذ وهو يقول: “لا أستطيع تمييز الأشياء ولا المباني في هذا المكان” نظرتُ حولي، فأدركت لمَ قال ذلك؛ كانت المسالك متشابهة للغاية، ولولا اختلاف الأضواء، لظننت أننا نسير في دوائر مغلقة. “أشعر أننا عدنا إلى نفس المكان الذي كنا فيه قبل قليل”. نفيت ذلك بهزّة من رأسي، وأنا أقول: “لم نرَ هذا المبنى من قبل”. هزّ رأسه موافقاً دون أن يتحدّث، وتابعنا المشي.

“لقد تعبت” تفوهت بهذه العبارة وأنا أجلس على الأرض المعدنية اللامعة خلف احدى البنايات الضخمة بينما وقف معاذ وهو ينظر حوله: “يبدو أننا تهنا يا سارة” انضم إلي في الجلوس، وقال: “إن المكان شديد الضخامة والاتساع، كل شيء كبير هنا، انظري” وأشار بيده إلى ما أمامنا، فرأيت مجموعة من الآحاد والأصفار تسير متلاصقة في مجموعات من ثمانية أفراد، ترتبط كل مجموعة بأخرى بسلسلة بيضاء، وكأنها مصنوعة من المناديل الورقية. المكان معتم وبارد، وكأننا في الفضاء. ولمحتُ إشارات ضخمة إلى التحويلات، وكلها بالأرقام الثنائية المكونية من آحاد وأصفار فقط. التفتُ إليه، فوجدته ينظر إلى مباشرة، فأبعدتُ نظري عنه وقلت بانبهار يشوبه الأسف: “المنظر رائع جداً، لولا ما نمر به من ظروف” اكتفى بهزّ رأسه. تساءلت: “والآن ماذا سنفعل؟” لم يبعد نظره عني كما لمحته بطرف عيني وأجاب: “لا أدري فعلاً، هل تدرسين البرمجة؟” أجبته: “نعم، وليتني لم أدرسها” ابتسم بمرارة وهو يقول: “أنا أيضاً أتمنى لو لم أدرسها”، سألته: “هل تعمل؟” قال وهو يبتسم: “نعم أعمل مبرمجاً في احدى الشركات”.

كان قد أنهكنا التعب فعلاً، فقد مضى علينا قرابة الخمس ساعات ونحن تائهان. فجأة شعرت بالجوع، فسألته: “هل أكلت شيئاً منذ ان..” قاطعني: “كلا!” صمت قليلاً ثم تابع: “يبدو أن جميع المبرمجين في العالم يشتركون في صفة الإحساس السريع بالجوع” وأتبع عبارته بضحكة قصيرة، شاركته فيها، وأنا أسخر قائلة: “وهل خمس ساعات أو أكثر وقت قصير؟” لم يجب. سارعت بالوقوف وأشرتُ إلى لوحة ضخمة مكتوب عليها بخط فسفوري أزرق لامع (عالم ثلاثي الأبعاد) وقلتُ: “لعلنا نجد طعاماً يؤكل هناك” وأتبعت كلامي بالفعل فمضيتُ متجاهلة عبارات الاستهجان التي أطلقها تبيّنتُ منها: “إننا لا نعرف ماذا يوجد هناك” تظاهرتُ بأنني لم أسمع ماقال، فما كان منه إلا أن تبعني مستسلماً، وهو يقول: “وقد نجد لنا مخرجاً أيضاً.”

عبرنا المسافة التي تفصلنا عن العالم الثلاثي الأبعاد في وقت غير قصير، وبعد صعوبة بالغة، تمكنّا من الدخول. ولحسن الحظ، وجدنا سيارة من سيارات السباق المكشوفة، من تلك التي تستخدم في ألعاب الكومبيوتر. ركبناها فوراً، وحاولنا عبثاً فك طلاسمها ولكننا لم ننجح في تشغيلها ثم قررنا في نهاية الأمر أن نتركها، ونتقدم سيراً على الأقدام فليس لدينا وقتاً لنضيّعه. كان المكان هادئاً على عكس ما توقعت. وفجأة سمعتُ دوياً هائلاً يشبه صوت انفجار تشيرنوبيل فاختبئت خلف معاذ دون أن أشعر، بينما همس هو قائلاً: “يبدو أننا دخلنا قسم الألعاب”. ولم يمهلنا الوقت طويلاً، فقد سطعت أنوار هائلة في كل مكان، وأدركتُ فجأة أننا كنا نسير على طاولة بليارد! تلفتنا حولنا خائفين، كانت الكور ذات نصف قطر يساوي طول الإنسان، أي أنها لو مرت فوق أحدنا ستقتله على الفور، صحتُ بانفعال:”يجب أن نخرج من هنا!” ولكن صيحتي كانت متأخرة، إذا أن أحد اللاعبين كان قد صوّب كرته بالفعل باتجاهنا، أخذت أجري، دون أن ألتفت خلفي وأنا أصيح: “اركض يا معاذ اركض”، كانت الكرة تتدحرج نحوي بعناد، وانتبهت بعد فوات الأوان أنني أتجه نحو أحد الثقوب الستة في طاولة البليارد.

وقفتُ على حافة الحفرة، وأدركتُ أن الكرة الضخمة ستدفعني لأسقط في الثقب الذي بدا هائلاً ثم تسقط فوقي. وصرختُ بصوت أفزعني أنا نفسي: “معااااااذ!!”، أدركتُ أنها النهاية. وفي اللحظة التي كدتُ أنزلق فيها إلىالحفرة، اصطدمت الكرة بحافة الفتحة التي كانت تواجهني وانحرفت دون أن تدخل في الثقب ومضت مبتعدة عنّي. كنتُ أسمع صوت تصادم الكور ببعضها البعض، وأنا ألهث خائفة. وفجأة وقبل أن أنتبه لما يحدث، رأيت معاذاً يندفع نحوي بقوة. وقبل أن أحذّره بأن هناك ثقباً هائلاً خلفي وجدته يدفعني نحو الثقب بكل ثقله، ثم قفز فيه معي. كان صدى صراخنا معاً يتردد في الخرطوم الهائل بينما كنّا نهوي في الفراغ، حتى وجدنا أنفسنا نسقط فوق مساحة غير معدنية.

صحتُ وأنا أحاول الوقوف: “هل أنت مجنون؟” كانت الأرضية حولنا غير مستوية، وكأنها أرضية من الصوف! أجابني بهدوء وهو يحاول الجلوس: “سارة، لقد كانت الثقوب سبيلنا الوحيد للخلاص، ولو بقينا على الطاولة، لدهستنا احدى الكور بلاشك”. هدأت قليلاً ولم أعد أحاول الوقوف على قدمي، فقد شعرتُ بإنهاك وألم شديدين. قلتُ وأنا أتلفتُ حولي: “وأين نحن الآن؟” قال وهو ينفض الغبار عن ثيابه: “خارج اللعبة بالتأكيد والحمدلله”.

استأنفنا السير بعد قليل، وتساءلت: “ما هذا المكان الذي سقطنا عليه يا معاذ” قال كمن يحاول الاستنتاج: “لعله غلاف أحد الأسلاك المبطّن بمواد عازلة، والحمدلله أننا سقطنا عليه” وأتبع كلمته الأخيرة بابتسامة. لأول مرة منذ أن وجدت نفسي محجوزة في هذا العالم أشعر بالأمان! كيف يمكن لابتسامة من شخص لا أعرف عنه سوى اسمه الأول فقط، أن تشعرني بهذا القدر الكبير من الأمان والراحة؟ لم يدع لي مجالاً لمزيد من التأمّل، فقد هتف بانفعال: “سارة، أنظري”، نظرتُ حيث أشار، فوجدت بناية ضخمة، أمامها صحنٌ هائلٌ عليه قطعة كيك! اندفعت جرياً غير مبالية بالأصفار والآحاد، وقد شعرت بالجوع الشديد فجأة. كانت قطعة الكيك في نفس طولي، لذا مددتُ يدي للأعلى كي آخذ كمية من الكريما، ومن العجيب، أنها كانت صالحة للأكل. وصل معاذ بعدي وهو يصيح ضاحكاً: “مبروك يا سارة فزتِ في الماراثون”، ضحكتُ وأنا أنتزع قطعة من الجاتوه وألتهمها بسرعة.

مشينا وكلّنا أمل الآن، فالطعام له مفعول السحر على الجائع. سألته: “ولكن كيف كانت القطعة صالحة للأكل” أعطاني منديلاً أخرجه من جيبه، وهو يشير إلى أنفي وقال ساخراً: “توجد لطخة كريما على أنفك يا فجعانة”، مسحتها بخجل، وأنا أكرر: “من الغريب أن نجد شيئاً صالحاً للأكل في عالم رقمي مثل هذا!” لم يعلّق. توقفت عن المشي فجأة وقلتُ: “معاذ لقد عرفت الحل!” كان قد تقدّمني بخطوتين، فالتفتَ إلي متسائلاً. فقلتُ: “نحن رقمّيان!” تركتُ نفسي لأستوعب ما قلتُ للحظة ثم اندفعت: “نعم هذا هو التفسير الوحيد” أشاح بيده، وهو يقول: “كلا لسنا كذلك، وإلا لما تعرّف علينا أحد على أننا غريبان عن هذا العالم” أصررتُ قائلة: “بلى بلى،نحن لسنا رقمييْن تاميْن، ولكننا شبه رقميان. ولذلك استطعنا أكل الطعام الرقمي.” هز رأسه باستسلام وقد بدا واضحاً أنه غير مقتنع.

خرجنا من العالم ثلاثي الأبعاد، وجلسنا على بوابته بيأس. همستُ: “أتعرف يا معاذ لولا مطاردة المطاردين لنا، لكنت استمتعت بهذه المغامرة حقاً”، أمّن على كلامي موافقًا، ثم نظر إلي مباشرة، وقال: “بل لعلها ستكون أسعد المغامرات فعلاً”. وبدون سابق إنذار، أحاطت بنا كتيبة الاعدام!
الواو المنطقية: وأخيراً عثرنا عليكما.
معاذ: دعونا نشرح لكم.
أداة الجمع: لا تخافا..
الواو المنطقية: أجل لا تخافا، فنحن نبحث عنكما منذ ساعات طويلة..
أداة الجمع: نحن سنعمل على اخراجكما من هنا.
أنا ومعاذ وقد ألجمتنا المفاجأة: هه؟!!
عنوان الآي بي: لقد عرفنا الطريقة التي دخلتما بها إلى هنا، وسنعيد كل منكما إلى مكانه الأصلي.

ترددت الكلمة في رأسي مرة أخرى، كل منكما إلى مكانه الأصلي! هل هذا يعني أننا سنفترق؟ “هل لديك بريد الكتروني يا سارة؟” سمعتُ صوته الذي اعتدتُ على سماعه في الساعات الماضية. أجبته: “نعم لدي، بالطبع”. أخذ يفتّش في جيوبه بحثاً عن ورقة وقلماً، ثم قال باستسلام: “أعطنيه، سأحفظه يا سارة، فأنا أتمنى لو لم يكن كل ما حدث حلماً”، أجبته: “كلا ليس حلماً” نظرتُ إليه مباشرة، وأنا أردد: “لا أريده أن يكون حلماً يا معاذ!”.
أخذنا عنوان الآي بي إلى أحد المباني العملاقة. كان المكان مكتظاً بالكثير الكثير من العلامات المنطقية، وعناوين الآي بي والأصفار والآحاد. بعضهم يغلّف المعلومات المرسلة، وبعضهم يجري مستعجلاً لإتمام المهمة. كنا نسير بصمت ونحن نتطلع حولنا بفضول وشيء من الحزن. وفي نهاية المطاف أجلسونا على مقعدين وأمرنا عنوان الآي بي بالاسترخاء كي نستعد للعودة لعالم البشر الذي جئنا منه. فنظرتُ إلى معاذ، وأغلقت ناظري على صورته. لتكون آخر ما يبقى في ذاكرتي من هذا المكان العجيب.

حين فتحتُ عيني رأيتُ نفسي جالسة على مقعدي، وأمامي شاشة الكومبيوتر، وقد بدت فيها نافذة البرنامج الذي كنت أقوم بحلّه. لوهلة، شككتُ في كل ما مر بي، وكأنني أخشى أن يكون حلماً. مددتُ يدي لأكتب على الكيبورد، فسقط على الأرض منديل ملوّث بالكريما!!! لا أدري إن كنتُ قد جننتُ، ولكني أسرعتُ لفتح الإيميل الخاص بي. وضغطتُ على استقبال الرسائل الجديدة، فلم أجد أي رسالة جديدة! تراجعتُ للخلف في المقعد وكلّي خيبة أمل. تساءلت مفكرة، ترى ما هو الحد الفاصل بين الحلم والحقيقة في كل ما حدث؟! ضغطت على زر استقبال الرسائل الجديدة مرة أخرى، فرأيتُ رسالة جديدة بعنوان: “أرجوكِ كوني حقيقةً كما وعدتِيني”.
مضى على زواجنا ستة أعوام. ولازلتُ أحتفظ بالمنديل الملطّخ ببقايا الكريمة التي تجمّدت وأصبحت كأنها طلاء. وقد بقي السؤال حائراُ بيننا: كيف حدث ما حدث؟ ولكننا لم نعثر على جواب له حتى الآن. لعلها كانت إرادة الله كي ألتقي بمعاذ، وكي يظل لقاؤنا في أعجب ظروف يمكن أن يتلقي بها زوجان.

– تمت –

أوشال

تعليق واحد على “عالم آخر!”

  1. فهد البرغوث علق:

    يالله ..
    انا مصمم مواقع انترنت
    وقد اكون اكثر شخص استمتعت بكل سطر
    من هذه القصة القصيرة

    انتي انسانه مبدعة
    وخيالك شي لا يوصف

أضف تعليقاً